منطقة "اليورو"...هل تحتضر مالياً؟
قبل شهرين، بدا وزير المالية اليوناني على قدر مثير للدهشة والإعجاب من النزاهة حينما وصف الآفاق المستقبلية لبلاده بقوله: إن كل الذي نقوم به الآن هو محاولة تغيير سفينة تايتنك الغارقة هنا في بلادنا. ومنذ ذلك الإعلان، تبدت هذه التراجيديا اليونانية الحديثة بأشكال ومدى لم يتكهن به مطلقاً وزير المالية نفسه. فقد كان في علم المستثمرين أن اليونان استدانت أكثر مما تستطيع أن تسدد ما عليها من ديون، ولذلك عمدوا إلى زيادة أسعار الفائدة على السندات المالية اليونانية، ما يعني دفع اليونان نحو موت مالي أكيد. ومما زاد الأمر تعقيداً، أن الحكومة اليونانية كانت قد وعدت بجمع المزيد من العائدات الضريبية التي تمكنها من الاستمرار في سداد ما عليها من ديون والتزامات. غير أن الذي حدث هو إضراب العمال والموظفين المدنيين، بمن فيهم بعض جامعي الضرائب.
والسؤال الآن: كم عدد الدول الأوروبية التي يمكن أن تخطو خطى اليونان مالياً، وما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للعملة الأوروبية الموحدة "اليورو"؟ والإجابة أن بدايات هذا الموت المالي تهدد الآن عدداً من الدول الأوروبية المثقلة بالديون، لا سيما البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وآيرلندا. وقد احتدم الصراع بين القادة الأوروبيين حول ما إذا كان عليهم أن يقدموا أي مساعدات لليونان تهدف إلى إنقاذها اقتصادياً. وعلى رغم القرار الذي اتخذه القادة فيما بعد بتقديم مساعدات إنقاذ مالي كبيرة لليونان، فقد تركت هذه الأزمة تأثيراتها على مصير ومستقبل العملة الأوروبية الموحدة.
ذلك أن الإطار الوحيد الذي يمكن أن تعمل فيه "اليورو" على أفضل ما يكون، هو أن تصبح الدول المشاركة فيه معافاة مالياً واقتصادياً. ويعني هذا بعبارة أخرى أن على حكومات الدول الامتناع عن الإفراط في الاستدانة. وعلى الدول التي تستخدم عملة "اليورو" أن تحافظ على انخفاض عجز موازنتها العامة دون نسبة 3 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي. يجدر بالذكر أن الأزمة اليونانية الأخيرة كشفت عن إغراء آخر: إن على دول منطقة اليورو منع شركات القطاع الخاص من رفع أجور عامليها بمعدلات سريعة. وما لم تفعل الدول ذلك فلن يكون في وسعها التنافس مع دولة قوية مثل ألمانيا، التي تقوم سياسات العمالة فيها على استراتيجية خفض التكلفة.
ومن بين هذين الاغراءين: الإفراط في الاستدانة، والإفراط في الدفع، حظي أولهما بالاهتمام الأكبر، بينما ظل الثاني الأكثر تهديداً لعملة "اليورو"، وفي نهاية الأمر فإن الحكومة التي تفرط في الاستدانة، هي التي يرجح لها ألا تفي بالتزاماتها المالية. وبالطبع يظل في وسعها فعل ذلك، سواء كانت في إطار عملة موحدة مشتركة بينها ودول أخرى، أم خارج ذلك الإطار.
وليس لدولة عضو في منطقة "اليورو" تسمح بزيادات غير مستدامة في أجور العاملين من مخرج سهل كهذا. كما أنه ليس لها أن تحافظ على قدرتها التنافسية في السوق، عن طريق خفض قيمة عملتها، لأنه لم تعد لها عملة وطنية مستقلة عن اليورو أصلاًً. وعليه فإن السبيل الوحيد الذي يعيد إليها قدرتها التنافسية هو خفض أجور العاملين، وهو إجراء لا يحظى بأدنى شعبية ولا يرجح نجاحه في أي من الدول الديمقراطية. وحين يجد ناخبو دول منطقة اليورو أنفسهم أمام خيارين اثنين فحسب: إما القبول بسياسات التقشف الاقتصادي التي ترغم عليها حكوماتهم، وإظهار التأييد الشعبي لهذه السياسات، أو الخروج بدولهم من عضوية "اليورو"، فليس ثمة شك كبير في الخيار الذي يتخذه الناخبون في هذه الحالة: مغادرة منطقة "اليورو" بالطبع.
وحتى في حال إقناع العاملين بخفض أجورهم، فإن هذه الوصفة العلاجية ليست محصنة هي الأخرى ضد الفشل. فالدول العاجزة عن المنافسة، عادة ما تستنزف في إدارة عجزها التجاري. ولذلك فهي تضطر لشراء البضائع والخدمات من الدول الأخرى أكثر مما تبيع لها المنتجات نفسها، ثم تسدد قيمة هذا الفارق بين مشترياتها ومبيعاتها عن طريق الاستدانة من الدول الأخرى. وهكذا تتراكم عليها الفوائد والديون في ذات الوقت.
وفي حالة اليونان، فإن للقارة الأوروبية –بمساعدة صندوق النقد الدولي- من المال ما يكفي لإنقاذ الاقتصاد اليوناني الصغير نسبياً. ولكن هل تكون القارة قادرة على إنقاذ اقتصادات أوروبية أكبر، مثل الاقتصاد الإسباني، من انهيار مالي متوقع؟ ومثلما سارعت السلطات الأميركية إلى إنقاذ مؤسسة مصرفية صغيرة مثل "بير ستيرنز" بينما ترددت كثيراً إزاء إنقاذ مؤسسة مالية أكبر مثل "ليمان براذرس" فربما يسارع الأوروبيون إلى إنقاذ اليونان، لكنهم قد يترددون إزاء إنقاذ اقتصاد أكبر كالاقتصاد الإسباني، الذي بدت تلوح مؤشرات اقترابه من حافة الانهيار تحت كل الأحوال.
والحقيقة القاسية هي أنه بات على القارة الأوروبية مواجهة خيارين كلاهما صعب: إما القبول بتصدعات جزئية صغيرة في مشروع منطقة "اليورو" الآن، أو القبول بتصدعات أكبر وأشد عمقاً لاحقاً. ومهما يكن الخيار النهائي الذي تتخذه القارة، فربما كان إنقاذ اليونان من مأزقها المالي الحالي، خطوة أولى في الاتجاه الخطأ.
سباستيان مالابي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محلل اقتصادي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"